الأحد، 20 أكتوبر 2013

كِبَرٌ ورِيَاءْ !

[أُحدِّثُ نفسي علها تستفيد، وأُقوِّمُ شيطاني علّه يستقيم]

  Haifa Almutawa الصورة لـ
  
إن للقلب أمراضا أشد وطأة على النفس من أمراض الجسد، وإنها لطفيلية تتسلل لحياة الإنسان في غفلة منه، لن يكتشفها إلا بعزلة يغوصُ خلالها أعماق قلبه.


كان يُلقب بطاووس الملائكة، لم يترك عبادة إلا وقام بها.. حتى قال البعض أنه لا يُوجد في الأرض شبر إلا وسجد فيه، لن تصدقوا عمن أتكلم !، انه إبليس! نعم إبليس بشحمه ولحمه.. كان أشد المخلوقات عبادة، يتقرب إلى الله بعبادات ظاهرية مادية على أساس "أعطيك تعطيني!"، كلما سجد يقول "أنا عبدتك يا رب أكثر منهم وعملت.." فسايره الله ورقَّاه إلى أن أصبح أقرب المقربين ورئيسهم.
بقي كذلك إلى أن خُلِق آدم ورفض إبليس الخضوع لأمر الله بالسجود، لأنه أفضل منه خَلْقاً وأشد عبادة منه.

من هنا نبع الكِبر كأول معصية من أول عاصٍ، بدأ بعُجبٍ بالنفس ونسب الفضل إليها لا إلى توفيق الله ثم تطور إلى سلوك وعمل بمقارنة وترّفُع على الخلق، وهذا أعمق وأشد أمراض القلب.. بطبيعة الحال نقله إبليس إلينا تنفيذا لقوله "لَأُغْوِيَنهمْ أَجْمَعِينَ"،  فهناك من يتكبر بنسبه وآخر بلونه أو نسله وكل هذا لا يد لهم فيه !،   وهناك من يتكبر بماله، حتى بلغ الأمر العبادات.. هم فقط المسلمون، نحن كفّار !.
هؤلاء الذين يتكبرون بعبادتهم سيكون جزاؤهم حتما الانصراف عنها وهذه قاعدة، الدليل في ذلك "إبليس" عبد الله أكثر منا بكثير، والآن ... !.
 وآخرون يتكبرون على العباد ويزدرون بهم ويتحامقون عليهم بعلمهم، الذي هو في الحقيقة جهل ! لأنهم لا يعلمون أنهم كلما ازدادوا علما، ازدادت مسؤوليتهم ومحاسبتهم أشد، فما نفع علم للعبد إن لم يعمل به ولم يزده إلاّ  كِبراً !!.
أما أحمق الحمقى من يتكبر بالمال !، لأن الإنسان يُسأل عن كل شيء مرة، أما المال يُسأل عنه مرتين.. من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ فمن السخف التكبر بمالٍ حلاله حساب وحرامه عقاب !.

بالله عليكم على أي شيء نتكبر؟!،  كان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول : "عجبت ممن يتكبر وهو ضعيف، تنتنه العرقة، وتقتله الشرقة، وتورقه البقة".
حتى الحيوان لا يجوز احتقاره ! من نحتقر، الصانع أم الصنعة ؟! فما بالنا بالإنسان على الإنسان وان كان عاصيا، يُقال في ذلك "لا تحتقر العاصي، احتقر المعصية" يوجد فرق بين الاثنتين، و" لا تشمت في أخيك فيعافيه الله ويبتليك".. فما الفائدة من التكبر ؟!.

لو نتأمل المتكبر المترفع على الناس، نجده دائما منشغل بالناس ومقارنا حاله بحالهم، حتى يصبح محتاجا لهم فلا يمكنه العيش وحده لأنه مهتم بنظرتهم له، هذا أكسجينه في الحياة !. وهنا المدخل لمرض القلب الثاني "الرياء" ، في الحقيقة هي سلسلة متسلسلة، مرض يجلب مرض.. فالرياء يجلب مرضا آخر وهو الحسد وهذا بالضبط ما في قلب إبليس، لذا يحاول دوما صرفنا عن العبادة ولا يريد لنا خيراً.

الرياء أخطر الأمراض، لان الشخص يجعل المقصود من قوله أو فعله ثناء الناس عليه، احترامهم له، نظرتهم إليه.. أي أنه بهذا جعل لله شريكا في نية عمله، وهذه معصية كبيرة جداً. فالتفات القلب الى محبة المنزلة بين الخلق، يورث اهتزاز المنزلة لذى الخالق.. وما قيمتنا اذا عظمنا العباد ونحن لا شيء عند رب العباد، وما الذي سيقدمه الناس لنا ومن الله كل شيء ولولاه لما وجد شيء!.

لذلك كان أحد العارفين بالله يعظم تكبيرة الإحرام، يقولون له" كبِّر"، فيقول : " أيستفتح المرء صلاته بالكذب، أيقول الله أكبر وفي قلبه كبِرٌ غير الله!".
فمن يجعل مع الله شريكا غيره، ينصرف عنه ويتركه وشريكه... وتكتب الملائكة عمله ظنا أنه لوجه الله حتى يأتي يوم الحساب، فينادي الله عبده ويقول له: لماذا فعلت كذا وكذا ؟.. يقول العبد : لوجهك وفي سبيلك.. فيقال له : كذبت، فعلت ليقال وقد قيل.. ويؤمر بسحبه على وجهه ويلقى في النار..
وهذا الأمر أكثر ما يُرعب العالم وطالب العلم، لأنهم أول من يدخل النار بسبب عدم صفاء النية في القول أو الفعل، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ابتغى العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو تقبل أفئدة الناس إليه فإلى النار".
ولشدة خطر عدم الإخلاص في طلب العلم يقول هلال بن العلاء : طلب العلم شديد وحفظه أشد من طلبه والعمل به أشد من حفظه والسلامة منه أشد من العمل به.

فماذا نبتغي من الناس ونحن وإياهم الفقراء إلى الملك الغني ؟! أولا يكفينا رؤية الله لنا وعلمه بنا ؟ وبالرغم من معرفته بعيوبنا وضعفنا وتقصيرنا.. دائما حبه يسبق محبتنا له، ورحمته تسبق غضبه، وان أتيناه قبلنا ولا ينصرف عنا.. يقول في ذلك أحمد بهجت رحمه الله : "في بداية طريقي إلى الله.. أخطأت في أربعة أشياء, توهمت أني أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه, فلما سرت قليلا في الطريق, رأيت ذكره سبق ذكري, ومعرفته تقدمت معرفتي, ومحبته أقدم من محبتي, ورأيته قد طلبني أولا قبل أن أطلبه". فسبحانه من الـه وما أعظمه من رب.


وكلما سرنا أكثر نكتشف معاني أعمق وعيوبا أدق، لم نلتفت إليها من قبل.. في العادة، عندما يُخلع باب البيت، نهُّمُ كلنا لإصلاحه حتى نحمي أنفسنا ونظل في مأمن وراحة واطمئنان، فما بالنا بـالقلب الذي يُعتبر باب القرب إلى الله.. ولن نُشفى من أمراضنا حتى نُعَظِّمَهُ في قُلُوبِنَا.. يقول جلال الدين الرومي "ثَبِّت عينك على الله" فلا ننظر لسواه ولا نبتغي غيره.

دعونا لا ننفر من اتهام أنفسنا بالعيب، هذا مالك بن دينار رحمه الله كان يمشي في شوارع البصرة، فناداه أحدهم: يا مُرائي.. يا مُرائي.. التفت مالك بن دينار للرجل مبتسما وقال : من الذي دلّك على اسمي الذي أخطأه أهل البصرة ؟.
لو نرى نجد أن ذلك الرجل السفيه لم ينجح في استفزاز الإمام مالك، لأنه أصلا متهم لنفسه ومعترف بينه وبين ربه، ومدقق عل أفعاله..

فلا عيب في الاعتراف بعيوبنا وتقصيرنا بهدف الإصلاح والارتقاء، وأن ينعم الله علينا بالاعتراف، يعني أنه أراد لنا الخير.. ولأنه يُريدُنَا لَنَا لا له، يبتلينا خلال اعتزالنا بأنفسنا ومحاسبتنا لها بحالات ظُلمانِية نفتقِر فيها إليه..

نحن صح نرتكب الذنوب ونعصيه، لكن لا مهرب لنا منه إلا إليه، ولا منجأ ولا ملجأ منه إلا له.. إلى أين سنفر من الله ؟ إلا إليه ذاته !، وقد جاء في الكلام عن أبينا آدم عندما أكل من الشجرة، أخذ يجري في الجنة، فقال له الله: يا آدم أفراراً مني؟ قال : بل حياءٌ منك يا رب.." فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" لأن "حياءٌ من العبد يُقابله حياءٌ من الرب"، فيغفر لنا ويرحمنا ويهدينا ويدهشنا.

أن يكون الطريق كله تقصير، هذا غير وارد.. وأن يكون كله قرب، أيضا غير وارد.. حياتنا بين هذا وذاك، بين مد وجزر.

"فاللهم نسألك أن تجعل لنا مخرجا من ظلمتنا إلى نورنا، حتى نعرف أنفسنا ونصلح عيوبنا ، ومن نورنا إلى نورك، حتى نكون عابدين لك، حقاً".

هناك تعليق واحد:

  1. اللهم آمين...
    جميل ورائع ما كتبتي.. اقرأ حالياً صيد الخاطر لابن الجوزي وفيها ذكر ومحاسبة كثيرة للنفس عن الكبر والرياء ولا جرم أن قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" لأننا محاسبون جميعاً على مثقال الذرة منها فما بالنا نغفل عنها بالكلية!!
    شكراً لكِ ابتسام :))

    ردحذف